27 Aug
27Aug

قد تكون هذه المسألة ذو طابع غاية في التجريد، لكن هناك مؤشرات من واقعنا اليومي تشي باختياراتنا وتصنيفنا لأولوياتنا الحياتية، وكيف ننظر إلى سلم نجاحاتنا، وتحديد سلم القيم الاجتماعية التي تدفعنا إلى اعتبار علم ومجال معرفيا يحظى بالأهمية والمتابعة، فهناك وضع يؤسف له، أن نجد علم بقدر أهمية علم الاجتماع في الدرك الأسفل في سلم اختيار الطلبة الناجحين في شهادة البكالوريا، فإذا كان الطب هو من بين التخصصات التي يفضلها الطلبة ويتم اخيار النجباء منهم لدخول كلياته، فهذا لأن الإنسان يملك شيئا وهو صحته، وهي أغلى من كل شيء، تجعله يرى في الطبيب الحكيم هو الشخص المؤهل لمنحه الوصفة المثلى لتشخيص مرضه وإعطائه الدواء الشافي له، رغم أن الإنسان قد يعاني في حالات عديدة مشاكل، قد تكون مالية وأمنية ووجودية بصفة عامة، لا تجعله يلجأ إلى المختصين في هذه المجلات حتى يتم شفاءه من مرضه، ويلجأ إلى هؤلاء المختصين في الاقتصاد والمسائل الأمنية حتى يبعد عنه ما قد يصيبه من مشاكل تتعلق بها، وهكذا حال المجتمع، فهو كائن له مستويات لتحقيق وجوده وتنظيمه أمنيا وماديا، ولكن عندما يعرف مشاكل وآفات اجتماعية لا يلجأ إلى المختصين في هذه المجلات السالفة الذكر، بل عليه أن يلجأ إلى من له الصلاحية والقدرة على تشخيص مرضه، ولا يمكن أن نتصور أي مجتمع يعاني مشاكل اجتماعية وثقافية يلجأ إلى غير من هو مختص في تشخيصها.

يعتبر علم الاجتماع هو العلم الوحيد الذي انبثق مع انبثاق المجتمعات الحديثة المعقدة، التي بات فيها هذا العلم هو الأداة القادرة على فهم تحولاتها والتعثر الذي قد يحصل في حسن سير العلاقات الاجتماعية من خلال التقدم وتحول القيم والمعايير، وقد أريد لهذ العلم منذ تأسيسه أن يكون أداة لرفع الفوضى وفهم الأزمات الاجتماعية التي قد تنجم من تحولات مفاجأة وطارئة، ولعل بعض من مسؤولينا ومثقفينا يشعر بضرورة هذا العلم ووجوب إقحامه في فهم تحولات المجتمع، خاصة أن هناك ظواهر اجتماعية أصبحت تقلق الرأي العام، تهدد روابطه الاجتماعية، على اعتبار أن التطور المادي وتحول نمط الحياة الاجتماعية قد أثر على النموذج الاجتماعي الذي نعتبره كخصوصية هويتنا الثقافية وطبيعة عاداتنا وتقاليدنا، والتي تعطينا الشخصية والهوية التي تجعلنا نعرف أنفسنا من خلالها.

إنه وضع يؤسف له، عندما لا نجد علم الاجتماع يلقى الأهمية التي تليق به في وضع البرامج وتناول أهم القضايا الاجتماعية، مع تدهور وضعيته في الجامعة الجزائرية، والتي انبنت على فلسفة، تمنح العناية القصوى للعلوم الطبيعية والتكنولوجية، فلا يخفى على أحد أن هذه الفلسفة كانت خيارا سياسيا تم الإفصاح عنه في المناسبات المهمة، فهل حقيقة علم الاجتماع هو علم يقلق؟ ويتم التحفظ حوله كلما تحول إلى أداة نقد وتحليل؟ مع السعي إلى تطويعه لتحويله إلى أداة تقنية ومرآة مطوعة، أو يؤتى به لكي يتماها مع خيارات سياسية أو مع خطاب أخلاقي يخفي الحقيقة الكامنة وراء التناقضات التي يعانيها المجتمع، والتي قد يذهب تحليلها والكشف عنها إلى وضع اليد على مكمن الخلل والذي قد يعيد النظر في نظام الافكار والأشياء.

إن التحولات التي يعرفها العالم العربي تجعل الإنسان يقف حيرانا حيالها، لمحاولة فهمها وكشف منطق سيرها وصيرورتها، ولعل على رأي علماء الاجتماع، إن العلم الوحيد الذي قد يخرج الإنسان من حالة الاستلاب هو علم الاجتماع، وهذا عندما تتضح الرؤية ويعطي تفسيرات ومقاربات تجعل الإنسان عندما يفهمها يخرج من حالة العجز وينجلي عن الواقع صفة اللامعقول، حتى لا يتسرب إلى عقولنا الدجل الفكري وللفوضى الفكرية أن تبسط سيطرتها على ثقافتنا، فيتحول رجل الدين منتحل علم الاجتماع، والمختص في علم الاجتماع إلى داعية، يخلط بين ما هو موجود وما يجب أن يوجد، وعليه لا نلمس التحليل العلمي للمجتمع إلا من خلال المعارف التي تأتينا من الآخر، وهذا هو عين الاغتراب، وبالتالي قد نتحول من ذات منتجة للمعرفة إلى موضوع لمعرفة غيرنا، فنتحول كما يقول محمد أركون إلى موضوع للمعرفة ليس لنا القدرة على إنتاج خطاب علمي خاص بذواتنا، لقد تحول الغرب هو المؤهل الوحيد على إنتاج خطاب علمي حول ذواتنا وهذا استلابا يزيد استلاب ذواتنا عن واقعنا ، ولعل علم الاجتماع هو من بين العلوم التي لها خصوصية النسبية، حيث لا يمكن أن نحلل الواقع الاجتماعي إلا من خلال عناصر تحليل ونظريات هي نابعة أصلا من نفس هذا الواقع.
 ولهذا نقول لمن ينطق باسم المجتمع كموضوع للمعرفة، هناك من ينطق باسمه، فلا طب إلا في كليات الطب ولا علم الاجتماع إلا في كليات علم الاجتماع.

_________________________________________________________

بقلم: الأستاذ الدتور في علم الاجتماع حنطابلي يوسف

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة